نافذة حرة لحوار حر

حينما تكون الأعمال الخيرية وسيلة للتهرب من المسؤولية

حينما تكون الأعمال الخيرية وسيلة للتهرب من المسؤولية

"يا ولدي والله إني أستحي أطلب من أحد، أنا بس أبي  لي وظيفة أصرف فيها على بيتي وأجيب العلاج لبنتي (المعاقة)".  أرمله من السعودية.

إن من أكثر ما يطمح له الإنسان أن يشار له -سواء في حياته أو بعد مماته- بصفات الكرم والعطاء من بذل من وقته وماله لدعم المحتاج، وهي إحدى الصفات الحميدة لفاعلها، ولكن الإشكالية حينما تكون لغاية أخرى أو وسيلة للتهرب من الواجبات من خلال تلك المنظمات الخيرية أو المبادرات التي يرمي من خلالها مسؤولياته على كاهل المتطوع والمتبرعين كمسؤولية مجتمعية، أو وسيلة للتهرب الضريبي وغسيل الأموال لتغطية عن صفات الجشع والطمع الذي وفي الغالب قد وصم بها من خلال التبرعات.

إن من يتابع العمل الخيري في السنوات الأخيرة في الدول الخليجية والتي تفتقد لوجود فعلي لمؤسسات المجتمع المدني والنقابات العمالية وكذلك الصحافة الحرة التي توثق انتهاكات السلطة والمسؤولين وتنقل تجربة العمال خصوصًا ما تعانيه العمالة الوافدة في الخليج وتنقل انتفاضاتهم، إلا أن تجربتي في وطني (السعودية) ومتابعتي للتطورات الاقتصادية والاجتماعية تكشف لي حجم فساد السلطة وتهربها من المسؤولية الاجتماعية برميها على عاتق المجتمع وتبرع الأفراد وبذل المتطوعين الذين لا تكون مهمتهم إلا ترقيع ما أفسدته السلطة في البلاد، هنا أتحدث عن العمل التطوعي الفعلي (الخيري) فقط، وليس عن استغلال جهود الأفراد من خلال أعمالٍ من دون مقابل كما يحدث الآن في الكثير من المؤسسات الرسمية والشركات التجارية التي يجبر عليها البعض لأجل وضعها في السيرة الذاتية واكتساب الخبرة، أو حتى إتمام الدراسة الأكاديمية!

إن من أهداف رؤية 2030 في السعودية هي الوصول إلى مليون متطوع، ولكن من يتابع هذه الأعمال "التطوعية" نجد أن أغلبها ما هي إلا أعمال كانت من مهام العاملين في القطاع العام أو الشركات التجارية المتعاقدة معها، ويأخذون الرواتب على هذه الأعمال -لا نغفل عن أن الأجور متدنية والبيئة غير الآمنة للعاملين- ولكن أيضًا لا يمكن أن تستغل هذه الجهود في أعمال هي من مسؤوليات السلطة، وإلا فلا المعنى للضرائب التي تلزم على الشعب إن كان لا يجد في الطرف المقابل الخدمات التي توفرها له السلطة، وأن تتكفل برعايتها مع مراقبة مؤسسات المجتمع المدني لها والنقابات.

نعود إلى العمل التطوعي الفعلي، لقد أطلقت وزارة الداخلية في رمضان 2019 خدمة "فُرجت" والتي تتيح للناس المساعدةَ للمسجونين في قضايا مالية، وقد أوضحت هذه المبادرة شهامة وعطاء الشعب السعودي حيث استطاعوا الإفراج عن 200 شخص خلال أربعة أيام فقط بملغ يقارب 20 مليون ريال سعودي!

لكن هناك سؤال مهم ينبغي علينا طرحه، وهو: لماذا اضطر جميع هؤلاء المديونين أن يكونوا بالسجن؟ لماذا تعتقلهم السلطة من الأساس؟ لا ننسى أن السلطة تقوم بإيقاف الخدمات المديونين قبل اعتقالهم! وهذا ما يعسر عليهم القدرة على سداد الدين!

إن كان لدينا شعبٌ يتكاتف مع بعضه في مثل هذه الظروف فلا يمكن للسلطة أن تلقي مسؤوليتها على هذا الشعب فقط، فهي مسؤولية تشاركية، والأهم من واجبات السلطة أن تساهم مع المدان بإيجاد حلول أكثر حضارية وواقعية للسداد عن دينه، توفير عمل إضافي كمثالٍ، لا أن ينتهي به أن توقف خدماته ويرمى بالسجن والتي لن يتضرر بها المدان فقط، بل جميع عائلته وأحبائه، ومن باب الأولى من ذلك كله أن تلتزم السلطة للمواطن بتوفير حياة كريمة أكثر عدالةً ومساواة.

هناك عدد من التخصصات الجامعية في السعودية لا يمكن للطالب أن يحصل على درجة التخرج منها دون أن يُلزم بتحقيق ساعات محددة من الأعمال "التطوعية" وهذا منافي كليًا لمعنى التطوع، فإذا كان العمل التطوعي هو العطاء ومساعدة الغير من دون مقابل فما يسمى هذا الأمر إذًا؟ هذا إذا قلنا إنه في عمل خيري كما يحدث في بعض التخصصات الصحية والإنسانية فما بالك بالتخصصات الأخرى التي بالفعل ما هي إلا استغلال لجهود الطلاب في أعمال من غير مقابل!

"حينما يُرى عاملٌ بأجر متدنٍ، تراهم يطالبون بجمع الصدقات لهذا المحتاج ثم يستفيدون من الهالة الإعلامية التي يكتسبونها من خلال هؤلاء الضعفاء؛ لكي يظهروا لنا بمظهر الكرماء المعطائين ويشار إليهم بالبنان، ويبقى هذا العامل وهذه العاملة وغيرهم في حاجة ليد العون بشكلٍ مستمر، دون البحث عن حل جذري لمشاكل هؤلاء ومعرفة من تسببوا فيها". رواية حتى الآن

أذكر ومن خلال الأعمال التطوعية التي شاركت فيها وهنا لا أقول ذلك بتفضل على أحد، إنما كنت أراه واجبًا عليّ تجاه وطني، وأكثر حزنًا على الحال الذي أراه فيه بينما أطمح أن أراه في واقع أفضل، فقط كانت أكثر الأعمال التي نقوم بها ما هي إلا ترقيع لفشل السلطة في واجباتها المجتمعية، حيث إن السلطة لا تعبئ بتوفير حق الرعاية الاجتماعية الكريمة لأصحاب الدخل المحدود، فليست مبالغة أن يقول أحدهم "إن الأعمال الخيرية هي الستار لفشل السلطة" فهذا ما كنا نقوم به وما زال يقوم به الكثير من أبناء وطني، لعلي قد حرمت الآن من مشاركتهم هذه اللحظة، ولكن الآن علي واجب لا يقل أهمية، وثغر لا بد وأن نحاول في سداده وهو مرتبط بالعمل الخيري لوطني وهي أن أكشف ما تفسده السلطة في وطني وأن أواجه تهربها من المسؤولية لنوفر الحياة الكريمة لأبناء شعبنا.

لقد حافظ رجل الأعمال الأمريكي "جيف بيزوس" مؤسس شركة أمازون على الصدارة كأغنى رجل في العالم لعامين حتى عام 2020، إذ يعتبر حتى كتابة هذه المقالة ثالث أغنى رجل في العالم بثروة تبلغ 147 مليار دولار بحسب صحيفة بلومبرغ البريطانية، ونراه في أكثر من مناسبة بالإعلان عن تبرعه بمئات الملايين وقد تصل إلى المليارات، تارة تكون لمنظمة خيرية وتارة لمبادرة أخرى، كما أنشأ صندوق "بيزوس للأرض" في عام 2020 لمواجهة أزمة المناخ، ونشهد دومًا احتفاء بمثل ذلك من قبل تلك المنظمات والصحف الإعلامية التي تنقل لنا ذلك الخبر وكأنه سينهي تلك الأزمة التي تبرع من أجلها.

تصدرت شركة أمازون كأكثر الشركات التي شهدت إضرابات من قبل العاملين في أكثر من دولة خلال السنوات الماضية ولعل أبرز الإضرابات ما قام بها العمال بعد تحالف مع أكثر من 70 نقابة ومنظمة عمالية في أكثر من عشرين دولة خلال عام 2020، في العام الذي ارتفعت فيه مبيعات أمازون وأرباحها خلال فترة الحجر المنزلي أثناء جائحة كورونا، وفي الوقت الذي كان فيه العمال يواجهون خطر تعرضهم للفايروس خلال أدائّم لمهامهم -كما حصل للراحلة "بوشون براون" العاملة في شركة أمازون والتي قامت الشركة بتكليفها أن تقوم بإجراءات فحص كوفيد 19 للعاملين الآخرين دون أن تتكلف الشركة بتدريبها على ذلك أو أن توفر لها أدوات الأزمة لحمايتها الشخصية- وبسبب الأجور المنخفضة والعمل لساعاتٍ طويلة وغيرها من الانتهاكات، انطلقت حملة “Make Amazon pay” (اجعلوا أمازون تدفع) وما زالت هذه الحملة تلقى صداها ويزداد المشاركون فيها من العاملين والنقابات.

إن من الأمور التي تدعو للسخرية أن يقوم بيزوس بالإعلان عن صندوق "بيزوس للأرض" بينما حملة "اجعلوا أمازون تدفع" قد كانت من أبرز مطالبها هي الحد من تأثير شركة أمازون على أزمة المناخ كاستخدامها للوقود الأحفوري، وأن عليها أن تلتزم بمعايير البيئة المستدامة، فهو شريك في التأثير على أزمة المناخ، ثم يريد أن يخرج بموقف الكريم الذي يبذل أمواله لإيجاد الحلول لهذه الأزمة.

إن تسليم المستحقات لأصحابها أولى ألف مرة من تلك الأموال التي يبذلها الأثرياء والمسؤولون للمتبرع بها لتلك المبادرة أو لأي منظمة خيرية، إن من يسلب الحقوق ونراه في الجهة الأخرى يعلن عن إنشائه مبادرة أو منظمة خيرية أو أموال يدفعها للتبرع ما هو إلا منافق يحاول أن يتهرب من مسؤوليته وفشله بتلك المبادرات، وعلينا أن نكون لهم بالمرصاد!

حينما نأتي على مستوى الدول سنجد أن أمريكا قد تتصدر المرتبة الأولى كأكثر الدول التي تجد فيها المؤسسات الخيرية وأغناها، والملايين من الساعات التطوعية التي يبذلها العديد من الأطباء والطلبة والعديد من فئات المجتمع، ولكن على المستوى الاقتصادي والاجتماعي نجدها من الدول التي تعاني من التفاوت الطبقي وغياب المساواة، والمديونية لأجل توفير أساسيات الحياة أو الرعاية الطبية أو التعليم، وهذا ما لا تجده في دول الرفاه/الديمقراطية الاجتماعية، وأميل للاعتقاد أن هنا مربط الفرس!

فالرأسماليون يميلون نحو المنظمات الخيرية والظهور في موقف المتبرع الذي يواجه الأزمات، بدلًا عن الالتزام بالسياسات الاشتراكية والظهور بموقف الذي يقوم بواجباته بشكلٍ مسؤول، الذي يعطي كل ذي حقٍ حقه، بعبارة أخرى: هم يفضلون الهروب من هذه المسؤولية ورميها على عاتق المجتمع من خلال المنظمات وعطاء المتطوعين.

خاتمة:

أتمنى ألا يفهم من كلامي أني داعٍ للتوقف عن الأعمال الخيرية، فهي وإن كانت لا تلبي المطلوب إلا أنها الخيار لنا نحن الحالمين لرؤية أوطاننا بشكلٍ أفضل، ولكن للوصول لعالم أكثر عدالة ومساواة علينا أن نواجه واقعنا وأن نكشف الستار عن حقيقة ما يحدث حولنا ومن المتسبب بكل ذلك البؤس، علينا إن نواجه الفاسدين، وألا نسمح لأي بإحداث الأزمات ثم ننتظر يهربون من مسؤولياتهم بالإعلان عن تلك المبادرات التخديرية ثم نصفق لهم، وإن توفير الحقوق أولى من تبرعات تبذل لغير أصحاب الحق.

أعلم أن الموضوع يحتاج لبحث أشمل لكشف حقيقة الفاسدين وأساليب تهربهم، وللوصول إلى الحل الأمثل لمواجهة الأزمات التي نمر فيها في عالمنا، إنما أحاول في هذه المقالة أن أدعو للتساؤل عن واقع حال المنظمات الخيرية وفاعلية دورها، ودور الحكومات ومسؤولياتها المجتمعية، وألا ننخدع بكل مبادرة تطلق وأن نحاول البحث عن جذور المشكلة ومواجهتها، وآمل أن هذه المقالة قد تفتح باب التساؤل والبحث لأحدهم؛ للكشف عن الجواب الشافي للوصول إلى عالمٍ أكثر عدالةً من عالمنا هذا.

بقلم: عبدالله الجريوي