الخليج من المقاطعة إلى ما بعد المصالحة
من المهم ملاحظة أن منطقة الخليج لم تعش استقرارا طويلا إلا فترة الحرب الباردة حين تخلى عنها البريطانيون لمصحة الأمريكان وحين رجع لها المستثمرون البريطانيون بسبب وفرة النفط، أما ما قبل ذلك فكانت عشائر تتقاتل، وتخضع للقوى المجاورة، سواء كانت تلك القوى الأتراك أو البرتغاليين أو البريطانيين، ثم كانت تهديدات الشاة لا يوقفها أهل الخليج بأنفسهم ولكن المستعمر البريطاني أو الأمريكي حرص على التعامل المباشر مع مشايخ العشائر دون وسيط ولو كان تابعا كالشاه، وأقام الأمريكان قاعدة الظهران زمن الملك سعود لحماية الملك والنفط، ثم عادت إيران تهدد بعد الثورة فكانت حماية الخليج باستقرار جيوش أكبر وقواعد أمريكية ولزمن قصير كان يبتزها صدام بحجة الحماية، وفي هذه الأيام تنسحب أمريكا من المنطقة وتضعها تحت حماية إسرائيلية ، لتحمي الخليجيين بعضهم من بعض ولتحميهم من احتلال إيراني أو ربما مع نفوذ صيني.
تم إنشاء مجلس التعاون الخليجي بأمر غربي لمحاصرة الثورة الإيرانية، وأقنع الحكام آنذاك بأنه من المهم لحماية انظمتهم من إيران أن يتوحدوا ثم ليساعدا العراق في محاصرة الثورة الإيرانية ثم في الحرب وألزموهم بأن حرب صدام ضد إيران هي حربهم.
ثم لما حدث الربيع العربي وشعرت إسرائيل بخطر الحريات وانتشارها في المنطقة أقامت خلية عمان الأردن لمقاومة الربيع العربي وخاصة إسقاط الديمقراطية في مصر، ولأن تحرر العالم العربي يخرجه من التبعية والخنوع الدائم للإسرائيليين، أما عدو وجود قطر في خلية عمان فلأنها مختلفة مع الإدارة التنفيذية للخلية "الإمارات" وأيضا تقيم على أرضها قيادة حماس، مما جعلها بقرار إسرائيلي منبوذة في الخليج، رغم علاقات لها مضطربة مع الإسرائيليين، ثم لأن قطر أيضا تتمتع بعلاقات جيدة، إن لم تكن تحفيزية، مع الربيع العربي ومع الحكومة الديمقراطية التي انتخبت حديثا في مصر 2012.
أدارت خلية عمان الانقلاب على الربيع العربي خاصة في مصر، هذا العمل الذي رعته تخطيطا إسرائيل والمحافظون الجدد بن زايد وبندر بن سلطان وتمويلا الرياض "عبد الله" والإمارات ونجحت الخلية في هزيمة نفذتها مخابرات الجيش المصري ضد الشعب وديمقراطيته.
ثم وبسبب الخلاف الشديد بين محمد بن نايف وبن زايد أتمت الإمارات الإطاحة بمحمد بن نايف الذي كانت أيضا علاقته جيدة مع قطر مستخدمة طموح محمد بن سلمان. واستخدمت الإمارات الخلايا الثورية للمحافظين الجدد السعوديين في الإمارات ولندن لتنفذ انقلابا ثقافيا في الرياض، ولم يكن الملك سلمان بعيدا عن التيارات التي كانت تدير إعلامه في لندن والإمارات، وكلها تجمع على ضرورة التخلي عن التحدي الذي يمثله الإسلاميون في المنطقة ويرى سلمان والمحافظون الجدد أن قطر كانت قطر قريبة منهم. واستطاعت بقية الحزب الشيوعي السعودي التي انفصلت مبكرا والتحقت بالمحافظين الجدد الأمريكيين وأدارت إعلام سلمان في لندن أن تؤسس للحركة المنتقمة من دعاة الحريات في العالم العربي وأن تنتقم من الدين ومن الإسلاميين في أرجاء الجزيرة العربية، وبتوجيه وقرب شديد من اليمين الإسرائيلي والأمريكي المتطرف أقاموا حرب الثورة المضادة ونجحوا إلى حد كبير في المحافظة على بشار في الحكم، ودفع قيس سعيد لإسقاط الديمقراطية في تونس، وحاولوا مع مقتدى الصدر أن ينظم لهم ولم يتم لهم الأمر. بسبب نفوذ أولياء إيران الأقوى.
كان من أهم برامج الثورة المضادة "خلية جدة" التي كان محمد آل الشيخ ينسق اجتماعاتها وقراراتها وكان على رأس الخلية محمد بن سلمان ومحمد بن زايد وتجتمع الخلية أحيانا بالممثلين من الإمارات وحزب محمد بن سلمان دون مشاركة القيادات من الطرفين، وكان من أهم أعمالها التنسيق لصنع الانقلاب الإماراتي الثقافي في الجزيرة العربية ومناصرة النفوذ الإسرائيلي الخليجي في الثورة المضادة.
ما لا يفهمه محمد بن سلمان والمحافظين الجدد في الجزيرة العربية أن موقف محمد بن زايد من الدين في الجزيرة العربية أنه يرى أن التدين كان انتصارا للوهابية المعادية له، وانتصارا لقطر التي يراها وهابية، فهو بالثورة على الدين في الجزيرة العربية يقضي على نفوذ العائلة السعودية، ويقضي على نفوذ قطر الوهابية.
تنافر الخليجيين سيبقى
حكومات الخليج ليست على قلب واحد، وأهم أسباب ذلك ما يلي:
محمد بن زايد لم ولن يقبل ببقاء الحدود كما هي مع حكومة الرياض، ومصمم على استعادة حقل الشيبة في الخليج، واستعادة المساحة بين حدوده أبو ظبي وبين قطر هذه المساحة الواسعة التي فقدتها أبو ظبي حين وقع زايد هذه الحدود مع فيصل عام 1975 وبالتالي العمل على إخراج هذه الأراضي من ملكية الرياض لتكون لأبو ظبي.
ثم إن محمد بن زايد سيحرص على بقاء خنجرا يمنيًا في خاصرة الرياض يستخدمها وقت الحاجة مهما تظاهر بعلاقة جيدة مع الرياض، وقد اكتشفت الرياض الموقف متأخرا. فلو اجتمعت أبو ظبي على محاربة الإصلاح في اليمن ولكن بعض جوانب الحرب حقيقة بينهما في اليمن.
وزاد من بيان التنافر والخلاف مع أبو ظبي إنشاء الخط البري عبر طرف الربع الخالي مع عمان ولا يمر بأراضي الإمارات، مما اعتبرته الإمارات تواصلا مباشر بين أعدائها المحيطين بها.
أما العلاقة بين الرياض والكويت فهي سيئة جدا لأسباب منها وجود مجلس الأمة الذي يحرج بقية حكومات الخليج فهو يعطي صلاحيات وصوت للشعب يرفع الشعب الكويتي، رغم محدودية دوره، لدرجة من الحرية والإنسانية فوق ما يمكن أن يقبل به بقية حكام الخليج، وقد سبق إلغاء المجلس بقرار سعودي عام 1987 ثم عاد بضغط شعبي كبير.
ثم الخلافات على حقول نفطية بين الكويت والرياض، وزد على ذلك موقف صباح الأحمد من المقاطعة لقطر ومحاولته الوساطة التي رفضتها أبو ظبي والرياض مما اضطره على فضح خطة الغزو لقطر في لقائه الإعلامي مع ترمب أمام البيت الأبيض. لم يتم غزو قطر ليس بسبب موقف الكويت ولكن بعد موافقة ترمب على الغزو رفض الجيش الامريكي تنفيذ الغزو مبديا الآثار السلبية لذلك، ومنها إنشاء حكومة في الرياض ستكون أغنى بالغاز القطري وربما أقوى ثم قد تخرج لاحقا من السيطرة، وبسبب آخر وهو احتمال المواجهة مع الإيرانيين والأتراك في قطر وقد تنشأ حرب كبيرة ومستمرة وتؤثر على النفط وغيره وخاصة لو تمددت إيران إلى قطر، كما أن الإمارات ليس فيها حكومة موثوقة فقد تنحاز لإيران لو انتصرت وظهرت قوية، كيف وقد كان الشيخ زايد يمول الإيرانيين والعراقيين بالتساوي زمن الحرب العراقية الإيرانية، وكان يخشى انتصارا تاما لأي من الجانبين.
أما عُمان فعلاقاتها سيئة دائما مع الإمارات وجيدة مع إيران واحتفظت بهذه العلاقة زمن الشاة وزمن الثورة، لأن الشاة أعان عسكريا السلطان ضد ثوار ظفار، ثم إنه تمت على أرضها المحادثات الأمريكية الإيرانية زمن أوباما، والتي انتهت بالاتفاق الذي تخلى عنه لاحقا ترمب، أما علاقاتها مع الرياض وبقية الخليج فلم تكن يوما منبعا للثقة من أي نوع، كما تميزت سياستها الخارجية بالعزلة والحياد تجاه خلافات الخليج وكانت عدائية مع الرياض في زمن المواجهة بين السلطان المؤيد من الإنجليز والإمام الإباضي الذي أيدته الرياض، بعد تحولها للجانب الأمريكي، ثم هُزم ولجأ إلى الدمام خارجا مع بعض أنصاره الذين ساهم بعضهم في عمل دبلوماسي لمصالح الرياض.
علاقة الغرب بالوضع الداخلي لحكومات الخليج
لا تهتم دول الغرب وخاصة أمريكا بالأوضاع الداخلية في أي من بلدان الخليج إلا حين يكون ذلك وسيلة ضغط أو مهددا لمصالحها، فبعد أحداث سبتمبر اهتمت أمريكا بإيقاف التدفق المالي نحو الجمعيات الخيرية وقضت عليه، ونفذت حكومات الخليج خاصة محمد بن نايف بطريقة أكثر من المطلوب، ثم في السنوات الأخيرة شددت أمريكا وإسرائيل على منع أي علاقة شخصية أو مالية للشعوب في الخليج مع المقاومة الإسلامية في فلسطين وبأمر من تل أبيب تم سجن عدد من القيادات الفلسطينية في الخليج وتمت مصادرة تجارة وممتلكات بعضهم وإخراجهم ووضع قيادات فلسطينية أو مؤيدة للفلسطينيين في السجون، وكان العساكر المحققون العرب مع الفلسطينيين وبعض الممولين الخليجيين تقرأ عليهم أسئلة التحقيق مترجمة من العبرية أو الإنجليزية وحتى الأسماء، يصححها المعتقل للمحققين بالحروف العربية، فالعين والحاء مثلا كان يقرأها المحقق العربي على السجين بحرف غير عربي، مما كشف أن الأمر بالسجن والتحقيق جاءت من تل أبيب.
الجولة القادمة والناتو الإسرائيلي
قام كوشنر وفريق من المحافظين اليهود بالتنسيق مع اليمين الصهيوني في فلسطين ونيويورك على تصميم مشروع الناتو الإسرائيلي، الذي يلبي مشروع الهيمنة التامة على منطقة الخليج والمشرق العربي، وتقدم إسرائيل مبررات هيمنتها هذه بأن تحتج هي بالخطر الإيراني في سعيها لكسب أمرين مهمين لها جدا، فهي تحتاج لهيمنة سياسية واقتصادية على حكومات المنطقة، ولن يتم ذلك إلا بالترويع من إيران وتركيا، وتستغل رعب حكومات الخليج من إيران لاستعباد الخليجيين بحجة أنها ستحمي تلك الحكومات من إيران ومن شعوبها، وأن أمريكا ستقوم بتوفير جسر تسليح لإسرائيل وعرب الخليج للحماية في حال الحرب مع إيران كما فعلت أمريكا لها في الحرب عام 1973 ضد مصر وسوريا واليوم مصر والعراق سوريا خرجت كلها من التاريخ، وأصبح استعمال حكومات الخليج لإسقاط إيران ضروريا، وفي الوقت نفسه القضاء التام على مستقبل الخليج بحجة حمايته، ثم قد تعود الدائرة على تركيا بعد إسقاط إيران، ولتتسيد إسرائيل كل المنطقة، ويتيسر تقسيم أي دولة قد تمثل خطرا مستقبلا.
وتحتاج إسرائيل إلى قهر المقاومة الفلسطينية وترى أن دور الحكومات العربية ضروري لذلك، حين تتم محاصرة الفلسطينيين بحكومات عربية محاربة لهم ومتفقة تماما مع عدوهم، لإنهاء إزعاج غزة والضفة الغربية، ثم هي تحتاج الموارد والعمالة القادمة من الدول المجاورة، وكل هذا بالإمكان أن يوفره الناتو الإسرائيلي.
الناتو الإسرائيلي يحرر إسرائيل من وجود تركيا، التي يرونها إسلامية، في الناتو الأمريكي الأوروبي، ويطلقها في السيطرة على الخليج المتنافر الخائف، ويطلق حكام الخليج في قهر الشعوب ونهبهم وإذلالهم مع عدم الخضوع لأي قدر من المساءلة.
كما يستغل الإسرائيليون والمحافظون الجدد الأمريكان وأتباعهم العرب ضعف الديمقراطيين ويوهم اليهود بايدن وفريقه أن سوف يؤيدون الرئيس الضعيف بايدن في جولاته الانتخابية القادمة، أو في انتخابات حزبه، فينفذ لهم رغباتهم غير أنه لن يجد مؤيدين كثيرين من اليهود في الانتخابات القادمة للحزب بعد تنفيذ طلباتهم.
أثر الناتو الإسرائيلي
من أهم آثار هذا الناتو صناعة تحالف تراه أمريكا ضد إيران بالدرجة الأولى، وتصنع منه أيضا حلفا ضد الصين المتجهة للخليج وضد أي نفوذ روسي أو تحالف روسي إيراني، خاصة بعد تراجع نفوذ أمريكا في وسط آسيا بخروج أفغانستان وتململ الباكستان.
ويمنع هذا التحالف قيام أي موقف أو تحرك سياسي في المنطقة يخالف المصالح الصهيونية، كما يزيد من قمع الحريات وإنهاء أي مطالبة بالحقوق في منطقة لديها أولوية عسكرية حربية تحرم النقاش في زمن المواجهة أو الانتباه لأمر ثانوي أو جزئي غير مهم مثل حقوق الإنسان أو الحريات أو الحديث عن فظاعات السجون في هذه المنطقة التي تعد سجنا مفتوحا للمخالفين وقمعا ممنهجا للأصوات الحرة.
ومن آثار ذلك تسخير المنطقة لمواجهات دائمة والتضحية بسكانها مستقبلا في أي حروب قد تنشأ، وكما يفعل الناتو في أوكرانيا التضحية الأوكرانيين لإضعاف روسيا ستنفذ إسرائيل التضحية بشعوب الخليج إلى آخر إنسان وآخر دولار لإضعاف أو إسقاط حكومة إيران وإبداله بحكومة لن تكون أود للخليج من الحكومة الحالية.
ومن أجل بقاء النفوذ الإسرائيلي على حكومات وشعوب الخليج سوف يعملون على إثارة خلافات شديدة ودائمة بين الحكام التابعين الخليجيين على طريقة "فرق تسد" وكما نرى في الخلاف الفلسطيني الفلسطيني سوف يتصاعد خلاف يخضع قادته للقيادة الإسرائيلية عسكريا وسياسيا واقتصاديا، وتكون هي الخصم والحكم بلا منازع، بعد أن تقيدهم بقيود لا فكاك منها.
ورقة مقدمة لديوان لندن - ورشة عمل حول المصالحة الخليجية.