الميكافيلية: حين تُصبح الغاية أهم من الوسيلة
تخيّل أن أمامك خيارين لا ثالث لهما: أن تلتزم بالمبادئ مهما كانت النتائج، أو أن تتجاوز بعض القواعد الأخلاقية لتحقيق مصلحة كبرى.
أي الخيارين تختار؟
هنا، في منطقة الظلال بين الأخلاق والسياسة، تظهر النظرية الميكافيلية.
الميكافيلية هي توظيف المكر والازدواجية في السياسية أو في الحياة العامة، وهي أيضًا مذهب فكري يمكن اختصاره في عبارة واحدة: "الغاية تبرر الوسيلة". أي أن الحاكم أو صاحب القرار قد يستخدم أي وسيلة، مهما بدت غير أخلاقية، لتحقيق الاستقرار، أو حماية السلطة، أو الوصول إلى أهداف يراها ضرورية.
يستعرض هذا المقال وجوه الميكافيلية في السياسة السعودية، من خلال دراسة توظيف الدين في الخطاب السياسي، ورصد تطور العلاقة بين الدين والدولة عبر حقبها المتعاقبة.
هل فعلًا الغاية تبرر الوسيلة؟
هذا السؤال أثار جدلًا فلسفيًا طويلًا بين المفكرين والأخلاقيين، ويمكن تلخيصه في ثلاث وجهات نظر رئيسية:
1. الرؤية المؤيدة
يرى أصحاب هذا الاتجاه أن النتيجة النهائية هي الأهم، وأن الطريق إليها قد يتطلّب قرارات غير مريحة أو حتى غير أخلاقية، إذا كانت تخدم مصلحة أعظم.
فمثلًا، لو سرق شخص دواءً من صيدلية لإنقاذ حياة طفل مريض، فالقانون سيعتبره مذنبًا، لكن الميكافيلي سيقول: إنقاذ الحياة أسمى من احترام القاعدة القانونية.
هذه الرؤية تُوصف بالبراغماتية، لأنها تضع النتائج فوق المبادئ.
2. الرؤية المعارضة
أما الرافضون لهذا المبدأ، فيرون أن السماح بتبرير الأفعال الخاطئة بأسم الغاية يفتح الباب للفوضى الأخلاقية. فالكذب، والخداع، والظلم، لا يمكن أن تكون مقبولة حتى لو كانت النية حسنة. الأخلاق، في نظرهم، يجب أن تكون ثابتة، لا تُقاس بالمصلحة.
فمثلًا، لو غشّت شركة تقاريرها المالية بحجة الحفاظ على وظائف الآلاف، فإن الضرر الذي يلحق بالمجتمع والمساهمين لا يمكن تبريره مهما كانت النية.
3. الرؤية المحايدة
يؤمن أنصار هذا الاتجاه بأن "الغاية قد تبرر الوسيلة… ولكن بشروط". فإن كان الهدف نبيلًا للغاية، كإنقاذ الأرواح أو منع كارثة كبرى، فربما تُقبل الوسيلة غير المثالية. أما إذا كانت الغاية أنانية أو مادية بحتة، فالوسيلة غير الأخلاقية تفقد مشروعيتها. هذه النظرة تميل إلى الموازنة بين القيم الأخلاقية والنتائج الواقعية.
الميكافيلية في التجربة السعودية
يمكن ملاحظة الميكافيلية بوضوح في التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها المملكة العربية السعودية خلال العقود الأخيرة، خصوصًا في توظيف الدين بما يخدم أهداف الدولة في فترات مختلفة.
فترة الصحوة الإسلامية (الثمانينيات والتسعينيات)
عقب الثورة الإيرانية عام 1979، برزت الحاجة إلى تعزيز الهوية السنية ومواجهة الفكر الثوري الإسلامي.
لتحقيق ذلك، دعمت الدولة التيار السلفي وأطلقت ما عُرف بـ ”الصحوة الإسلامية“، حيث مُنحت المؤسسات الدينية سلطة واسعة، وتكثف الخطاب المحافظ في المجتمع.
الميكافيلية هنا كانت واضحة:
الغاية: حماية النظام والحفاظ على الوحدة الوطنية.
الوسيلة: توظيف الدين كأداة للاستقرار السياسي ومواجهة التهديدات الأيديولوجية.
رؤية 2030 وتغييب الدين من الفضاء العام
مع إطلاق رؤية السعودية 2030 بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، تحوّل التركيز نحو التنمية الاقتصادية والانفتاح الاجتماعي.
فانتشرت المهرجانات الترفيهية الكبرى في العلا والرياض وجدة، واستُضيف مشاهير عالميون للترويج للسياحة، وتراجعت القيود السابقة على اللباس والمظهر.
الميكافيلية هنا أيضًا حاضرة:
الغاية: تنويع الاقتصاد وجذب الاستثمارات والسياح.
الوسيلة: تقليص نفوذ المؤسسات الدينية وتهميش الخطاب المحافظ.
أمثلة واقعية
سابقًا خلال فترة سيطرة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المجال العام، وقعت حادثة حريق مدرسة البنات الشهير الذي يعد مثالًا صارخًا على الاستخدام الميكافيلي للسلطة الدينية ؛ إذ أُغلقت أبواب المدرسة ومنعت الطالبات من الخروج أثناء الحريق بسبب عدم ارتدائهن العباءة، ما أدى إلى وفاة خمس عشرة فتاة وإصابة نحو خمسين.
لاحقًا، وعلى النقيض، استضافت السعودية مهرجانات موسيقية ومناسبات ترفيهية في العلا بحضور مشاهير عالميين، بدون اشتراطات صارمة على اللباس أو الذوق العام الإسلامي، بهدف الترويج السياحي.
كما تُظهر مواقف بعض العلماء السعوديين بوضوح الميكافيلية، حيث تتغير الفتاوى بحسب السياق الاجتماعي والسياسي لتخدم أهداف الدولة.
على سبيل المثال، الشيخ عايض القرني غيّر حكمه حول العرضة الجنوبية، فبعد أن كانت محرمة صار يعتبرها مقبولة، أما الشيخ عبد الرحمن السديس، فيحلل بيع الخمور في الأماكن السياحية بإذن ولي الأمر، بينما يبقى البيع في الأماكن الأخرى مرتبطًا بموافقة ولي الأمر، و الشيخ صالح الفوزان، مفتي المملكة، تغيّرت آراؤه حول الغناء وصوت المآذن العالي بعد تعيينه رسميًا؛ فالغناء الذي كان محرّمًا أصبح مقبولًا ضمن رؤية الدولة، وصوت المآذن الذي كان "يزعج أهل الشر" حسب قوله، قام بوصفه لاحقًا بأنه ”مصيبة“، ما يوضح بجلاء كيف يمكن أن تؤثر الوظيفة الرسمية وتوجيهات السلطة على المواقف الدينية.
هذه الأمثلة تبرز السؤال المحوري: هل هذه المرونة تجعل الميكافيلية أداة ذكية لتحقيق الاستقرار والأهداف السياسية بفعالية، أم أنها تعكس استغلال السلطة للدين بشكل سلبي؟
استمرار توظيف الدين كأداة للضبط السياسي
ورغم هذا الانفتاح المبتدع مؤسسيا لا يزال الدين يُستخدم في المجال السياسي كوسيلة للحفاظ على السلطة. فخطاب "طاعة ولي الأمر" لا يزال حاضرًا بقوة، ويُستخدم لتجريم المعارضة الفكرية أو السياسية. فمن ينتقد التوجهات الجديدة بدافع الدين، يُتهم بـ "إثارة الفتنة" أو "الخروج على ولي الأمر".
على سبيل المثال، تمّ إلقاء القبض على حزام الأحمري في فبراير 2020 بعد نشره فيديو ينتقد وجود ملهى ليلي قرب مسجد بحيّه، واصفًا الأمر بأنه "ثمن لرؤية 2030"، وأسعد بن ناصر الغامدي، معلّم سعودي، صدر بحقه حكم بالسجن 20 عامًا بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تنتقد برنامج رؤية 2030. كما اعتُقل عمر المقبل، في عام 2019 بعد أن انتقد سياسات الهيئة العامة للترفيه، معتبرًا أنها تتعارض مع الضوابط الشرعية، فحُكم عليه بالسجن لعدة سنوات، ولا يزال محتجزًا رغم انتهاء محكوميته، والقائمة تطول..
الميكافيلية هنا تتجلى بوضوح:
الغاية: حماية السلطة، وضبط الخطاب العام.
الوسيلة: توظيف الدين لتبرير القمع و تجريم المعارضة.
الخلاصة
تُظهر التجربة السعودية كيف يمكن أن تتجسد الميكافيلية في السياسة، حيث تُستخدم الغايات مثل حماية النظام، تحقيق الاستقرار، أو تعزيز الاقتصاد لتبرير وسائل قد تبدو متشددة أو متناقضة مع القيم الأخلاقية والدينية. سواءً خلال سيطرة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أم في الانفتاح الديني المحدود برؤية 2030، يبدو أن الدين قد يُوظف كأداة للسيطرة أو لتسهيل أهداف الدولة.
إذاً يتبقى السؤال الأخير للقارئ: هل الغاية تبرر الوسيلة كما يطرحها المنطق الميكافيلي؟
فكر فيها وشاركنا وجهة نظرك على اكس.